دخلت إلى هذه الحارة الضيقة القذرة ، فى ذلك التوقيت المتأخر بعد منتصف الليل .. كانت تعرف هدفها جيداً .. مقلب القمامة هناك بعد عدة خطوات و الذى يقابل تلك الصيدلية العتيقة .. إنه الثالث فى مشوار عملها اليومى الذى يتضمن عشرة مقالب قمامة على الأقل ..
و رغم أنها كانت قد تخلصت تماماً من عادة التذكر السخيفة ، إلا أنها لا تعرف ما بالها اليوم ، و لماذا تحاصرها الذكريات فى كل ركن ..
تحركت مصدرة ضجيجاً عالياً ساعده على الإنتشار سكون الليل و صمت الظلام .. كان هذا صوت نعلها الخشبى يدق الأرض ، و الذى سرقته يوماً من دورة مياه جامع قريب ، إلى جانب صوت ذلك الشوال البلاستيكى الذى تجره بيدها اليسرى دوماً ، و تضع فيه حصيلتها اليومية ..
و لأن الذكريات تحاصرها اليوم ، فقد سمعت صوت زحف الشوال على الأرض كصوت آلات المصانع ، و صوت خطواتها فى النعل الخشبى كصوت دقات على الباب .. آلات .. دقات .. آلات .. دقات ..
منذ عامين كان هذا اليوم المشئوم .. كان زوجها فى المصنع و كانت هى فى بيتها تفعل مثلما تفعل أى ربة أسرة غير ميسورة الحال .. تفكر فى الميزانية .. المأكل و المشرب و الملبس .. إيجار المنزل و فاتورة الكهرباء و المياه .. مصاريف الدروس .. تفكر كيف تحصل على كل هذا من مرتب زوجها البسيط .. فى ذلك الوقت كان زوجها على موعد مع القدر ، فهناك فى المصنع كان يقف أمام إحدى الآلات .. حين حدث ما حدث .. جاء أصدقاء الزوج على البيت ليخبروها .. سمعت دقات الباب .. فتحت لتستقبل الخبر المريع .. عاهة مستديمة !! بينما إتهم المصنع زوجها بالتسبب فى إنفجار الآلة و طالبته بالتعويض ..
الشارع من جديد
كانت قد وصلت إلى مقلب القمامة و قد بدأت تلقى نظرة فاحصة خبيرة ..
اقتربت من إحدى الأكياس المغلقة و همت أن تفتحه ، لولا أنه ذكرها بكيس الدواء ..
هل كان حقاً يشبه كيس الدواء ؟؟ هو أكبر من أن يكون كذلك كما أنه أسود اللون ..
الحقيقة أن الذكريات اليوم تلعب معها لعبة قذرة ، و هى تدخل لها من أى باب حتى ولو بخدعة ..
نظرت بعمق إلى كيس الدواء المزعوم .. و عادت الذكريات تدور ..
كان زوجها قد توقف عن العمل ، و استطاع المصنع إثبات مسئولية الزوج بعد أن أثبت بأوراق مزورة صلاحية هذه الآلات العتيقة للعمل ..
و كانت هى قد بدأت تقلب رزقها بعد أن أصبح زوجها قعيداً .. استطاعت أن تتغلب على أزمتها و ركزت طاقاتها كلها فى إطعام هذا البيت و حاولت بكل الطرق .. باعت صوتها فى الإنتخابات مقابل الطعام .. اشترت بعض السلع بالجملة و باعتها بالقطاعى .. قطعت الورد من حديقة قريبة ثم دارت تبيعه ليلاً على الكورنيش ..ـ
فى ذلك الوقت حلت عليهم اللعنة التالية ؛ ابنها الأكبر أصيب بداء خطير ، آلامه مبرحة و مستقبله مرعب قد يصل للموت ، و العلاج غال الثمن لا تطيقه أسرة فقيرة الحال ..
فى المرة الأولى استطاعت شراء الدواء .. و فى المرة الثانية استدانت لتوفيره لابنها .. فى المرة الثالثة استطاعت الحصول عليه من جمعية خيرية ، لكنها بعد ذلك فشلت فى توفيره .. حاولت بكل الطرق و لكنها لم تستطع .. و كانت أول مرة تستسلم .. جلست بجوار ابنها تداوى مرضه و حرارته المرتفعة بالكمادات فقط ، و اكتفت بعد ذلك بقراءة القرآن .. و حين جاء اليوم الذى أسلم فيه الروح بين يديها ، كانت فلسفتها فى الحياة تغيرت تماماً ..ـ
و الآن نعود للكيس !!
اندفعت نحوه تمزقه بغل .. كرهته بشدة قبل أن تعرف محتواه لأنه قلب عليها الذكريات ..
كانت رائحة محتويات الكيس شنيعة .. هى التى فقدت أى معنى للنظافة اشمئزت من محتوياته .. سدت أنفها فى تأفف .. طبعاً يدها التى سدت بها أنفها ليست نظيفة لكن القرف من يدها المتسخة هو ترف لا تملكه هى ..
فى تلك اللحظة اقتربت منها قطة تموء ، و أخذت تتمسح برجلها و ثوبها المرقع .. و لكنها ركلتها !! .. نعم .. ركلتها بقدمها لتلقى بها بعيداً .. لم تعرف لماذا فعلت هذا .. ربما لأنها أحست من هذه القطة بنوع من المنافسة فأرادت أن تقصيها و تنفرد وحدها بما يحتويه الكيس ، تماماً كما يفعل النمر حين يوقع فريسته و يرفض أن يقترب منها أى حيوان آخر .. و ربما لأنها فقدت أى احترام للحياة ، بسبب إبنها المتوفى و زوجها الحى الميت ..ـ
فتشت أكثر فى الكيس ..بقايا طعام متحللة .. خرقة قماش بالية .. أوراق مقطوعة .. و .. و علبة كارتون منثنية على نفسها ..
نظرت لعلبة الكارتون فى عمق و قد أدركت أن الذكريات ستعود من جديد ..ـ
فى ذلك اليوم بعد وفاة إبنها كانت قد فقدت إجبارياً كل الإحتياجات الثانوية للإنسان .. جودة الطعام .. نظافة الملبس .. و الأهم ، الكرامة ..
فى الليل خرجت ملتفة بعباءة سوداء .. اتجهت نحو مقلب القمامة القريب .. أخذت تبحث فى كل جنب عن شىء ذا قيمة تبيعه لتحصل على ثمنه .. لكنها فى تلك المرة تلفتت حولها خوفاً من أن يراها أحد .. كان أول شىء رأته و شعرت بقيمته هو علبة كبيرة من الكارتون .. حينها كانت تفتقد الخبرة و لا تنتبه لأشياء كثيرة أهم ..ـ
تعود و نعود للواقع ..ـ
ألقت علبة الكارتون بإهمال قى شوالها .. فهى لم تعد تقدرها نفس القدر بعدما صارت تبحث عن أشياء أكثر أهمية ..ـ
لقد صارت الآن خبيرة تمتلك من أسرار المهنة الكثير ، كما أنها لم تعد تتلفت حولها .. لينظر من ينظر ، و ليراقب من يراقب .. فالكرامة لم تعد من أولوياتها .. المهم الآن المال و الطعام
دارت فى المكان .. فتحت الكثير من الأكياس .. أزاحت عدة أكوام بلا فائدة ..الناس لم تعد تلقى أى شىء ذا قيمة فى القمامة ، و هم يستهلكون كل شىء إلى أقصى حد ممكن .. فالتخلص من أشياء ذات قيمة أياً كانت ، هى رفاهية لا يمتلكها الناس حالياً .. و هكذا خرجت من هذا المقلب بخفى حنين ..
لكنها لم تيأس .. النظرة الباردة فى عينها تثبت ذلك .. و الهمة التى تحركت بها من جديد تؤكد أنها لم و لن تفعل .. من مر بما مرت به لا يمكن أن ييأس لفشل بسيط كهذا .. كان عليها فقط أن تتذكر زوجها القعيد و أطفالها الجائعون بالمنزل ، لكى يملأها الإصرار من جديد ..ـ
و هكذا انطلقت نحو مقلب القمامة التالى ، بنفس الضجيج ، و هى ما زالت تجر الشوال بيدها اليسرى و تضرب الأرض بنعلها الخشبى ، فى دقات متتالية لتواصل مشوارها ..ـ
لا ليس مشوارها اليومى .. انه مشوارها الطويل الذى بدأ منذ أمد بعيد
تمت بحمد الله تعالى