~ 1 ~صاحب القصر
توقفت أنفاسى فى أنبهار تام وأنا أدلف إلى ذلك القصر الضخم الذى يحمل أسم { معاذ بهاء الدين }صاحب أكبر سلسلة شركات سياحية فى الشرق الأوسط كله...
وكدتُ
أقسم من شدّة أنبهارى بما حولى من مظاهر العز والترف أننى بطريقة ما - لا
أدرى ما كنهها ؟ - قد غادرتُ الحياه بكل متابعها وهمومها لأنتقل إلى الجنه
مباشرة حيث الحياه الرغدة بلا متاعب أو هموم !
قادنى
الخادم إلى حجرة واسعه زادتنى أنبهارا ً فوق أنبهارى ، بأثاثها الحديث
الطراز ، وكل مظاهر النعيم والرفاهيه التى تزخر بها ، وطلب منى الجلوس
والأنتظار حتى يحضر سيده...
كنتُ
بالفعل مُتعبة للغاية ، فتهالكتُ على أقرب مقعد لى ، وشعرتُ براحة
وأسترخاء لا أحظى بهما فى منزلى حيث المقاعد الباليه المُتحجرة ، التى تؤلم
لا تُريح...
وبدون
أن أشعر وجدتُ نفسى أقارن بين هذا القصر العظيم ، وبين منزلى الصغير ،
بجدرانه المُتصدعه ، وطلاءه المُتشقق ، وأثاثه البالى القديم ، وشعرتُ
بمرارة لا مثيل لها...
هل لابد أن يتمتع الأنسان بكل هذه الرفاهيه ؟
هل لابد أن يملك الأنسان شمعدانا ًمن الذهب الخالص ، وأوانى من الفضه ، وكؤوس من الكريستال النقى لكى يشعر بالراحه فى منزله ؟
لماذا لا يتبرع الأغنياء بجزء من ثروتهم لأعالة أسره فقيره كأسرتى ؟
ألن يكتمل المظهر الجمالى بدون كل هذا البذخ ؟ !
أطلقتُ
تنهيده مريره وأنا أنهض من مكانى وأخطو عدة خطوات نحو الواجهة الزجاجية
للغرفة لأتأمل الحديقة المُمتلئه بالزهور الجميلة ، وأعض على شفتاى ألماً
وحسرة...
" مرحبا ً . "
أنتزعنى هذا الصوت الرجولى الهادئ من أفكارى ، فأستدرتُ ببطئ لأتطلع إلى صاحبه و.......
وخفق قلبى بكل قوته !
لم
يكن صاحب هذه العباره رجلا ً فى العقد الخامس أو السادس كما تخيلته ، أنما
كان شاباً فى بداية الثلاثينيات من عمره... طويل القامة... عريض
المنكبين... حاد الملامح والقسمات... له عينان بُنيتان فاتحتان.... ونظرات
مُتفحصة وجريئة ، تنفذ إلى الأعماق مباشرة ً... وتوحى بمدى ثقته بنفسه
وغروره !
تقدم
الرجل بضع خطوات منى ، وجلس فوق إحدى المقاعد الأسفنجيه واضعا ً إحدى
ساقيه فوق الأخرى ، وراح يتأملنى بهدوء كما لو كان يتأمل لوحه فنيه ، أو
تمثالاً من رخام ، مما أربكنى بشدّه وجعلنى عاجزة عن النطق لفترة من الزمن !
وبينما كنتُ فى ذلك أتانى صوته وهو يقول فى ضجر :
" لا أظنكِ سعيتِ لمقابلتى ، لكى تتأملينى وتقيمينى فقط . "
عضضتُ
على شفتاى ، وأنتبهتُ إلى أننى قد صار لى فترة طويلة أتأمله دون أن أنطق
ببنتُ شفه ، فنفضتُ عن نفسى توترى وأنبهارى بالقصر وصاحبه وقررتُ أن أبدأ
فى الحديث مُباشرة ً ؛ فأنا هنا فقط لغرض مُعين...
وسأفعل أى شئ... وكل شئ لتحقيقه...
" هل لا أخبرتِنى يا أنسه بسبب طلبك لمقابلتى شخصياً ؛ فهناك أعمالاً مُهمه تنتظرنى ؟ "
أخذتُ نفساً عميقاً ، وحاولتُ أن أتغلب على قلقى وخجلى ، وأنا أقول :
" أننى أريد التحدث إليك بشأن مُنير حسين . "
مط الرجل شفتيه بضجر ثم قال :
" ومن هو مُنير حسين هذا ؟ هل من المًفترض أننى أعرفه ؟ "
تعجبتُ كثيراً من رده واستنكرته فى آنً واحد... ألا يعرف من هو مُنير حسين ؟
ألهذه الدرجه لا يشغل باله بأى شئ ؟
ألا يهتم أبداً بمشاكل العاملين لديه ؟
كم
أنا بلهاء لأظن أن رجلاً مثل هذا قد يشغل نفسه بأمور كهذه ؛ فلابد أن لديه
عشرات المديرين الذين يتولون عنه هذه الأمور التافهة من وجهة نظره...
فماذا يعنى له أن يختلس شخصا ً من خزانته تسعة آلاف جنيه ، وهو الذى تذخر خزانته بالملايين من الأوراق الخضراء ؟ !
وماذا
يعنى له أن يُلقى رجلا ً فى الخمسين من عمره ، فى زنزانه رطبه ، فى مثل
هذا الطقس البارد ، وهو الذى يملك مثل هذا القصر الفخم ، الملئ بالمدفئات
التى لا تكاد تشعره بالفرق بين فصول السنه الأربعه ؟
حاولتُ التحلى بالصبر بقدر الأمكان وأنا أقول بهدوء نسبى :
" إنه أمين الخذانه بشركة من سلسلة شركاتك . "
ظل صامتا ً لفترة من الزمن وقد ضاقت عيناه بشكل يوحى بأنه يجاهد لتذكره ، قبل أن يهز رأسه ويقول :
" نعم نعم تذكرته... إنه ذلك الذى أختلس مبلغا ً ما من خذانتى . "
عضضتُ على شفتاى بأسى وقلتُ :
" نعم إنه هو . "
تأملنى الرجل مليا ً، ثم قال :
" وما شأنكِ به ؟ "
قلتُ :
" إنه أبى . "
تطلع الرجل إلىّ بحيره ثم قال :
" لم أفهم بعد سبب زيارتك لى يا أنسة...... "
قلتُ بسرعة :
" أسمى أروى . "
قال :
" حسنا ً أخبرينى يا أنسة أروى عن سبب تشريفك لى بهذه الزيارة . "
رغم
أننى شممتُ رائحة السخرية فى جُملته الأخيرة إلا أننى لم أكترث لها ،
وأخرجتُ من حقيبتى مظروفا ً يحتوى مبلغا ً من المال ، قدمته له قائله :
" لقد أتيتُ لأعطائك هذا المبلغ . "
تناول الرجل منى المظروف ، ونظر إلى محتواه بحيرة ثم قال :
" لكن... لماذا أتيتِ إلى هنا ؟ كان بأمكانك أن تسلمى المبلغ إلى قسم الشرطة ، ومن ثم سيفرجون عن والدكِ . "
تنهدتُ وقلتُ :
" لكن هذا المبلغ غير كامل... إنهم خمسة آلاف لا غير... "
وأضفتُ بتعاسه :
"
لم أتمكن من الحصول على المبلغ كاملا ً... أرجو أن تعتبر الأربعة آلاف
المُتبقيه دينـّا ً فى عنقى ، وأن تسمح بأن يتم الأفراج عن والدى . "
هز الرجل رأسه مُتفهماً ، ثم قال :
" نعم... فهمت الأن . "
وصمت لبرهة ثم مال نحوى وتطلع إلى عينى مُباشرة ً ثم قال بأهتمام :
" ومن أين لفتاه صغيره مثلكِ بأن تأتى بهذا المبلغ ؟ "
أحنقتنى جُملته كثيرا ً ، إلا أننى جاهدتُ لكى لا أفقد صبرى وأنا اقول :
" إننى فى الثامنة عشر من عمرى ولستُ صغيره ، ثم أننى بأمكانى تدبر أمرى جيداً . "
تحولت
نظراته المُتعالية فى هذه اللحظه إلى نظرة إعجاب أدهشتنى ؛ فلم أتوقع من
هذا الشخص المُتعالى سوى نظرات الغطرسة والتكبر الذى ظل يرمقنى بها منذ
وقعت نظراته علىّ !
ظل الصمت يغلفنا لفتره طويلة ، قطعتها أنا حين قلتُ :
" أرجو أن تقبل عرضى هذا... وأعدك بأننى فى خلال شهر واحد سأجلب لك الأربعة آلاف المُتبقية بإذن الله . "
هذه المرّه ظل الرجل صامتا ً لفترة أطول ، قبل أن ينهض فجأه من مكانه وناولنى المظروف الذى يحوى المبلغ ، قائلا ً :
" أسف يا أنسة... لن أستطيع قبول عرضكِ هذا . "
وأضاف بصرامة :
" لقد أخطأ والدكِ وعليه تحمل خطأه وحده . "
قال جُملته هذه وولانى ظهره هاماً بالأنصراف...
قلتُ :
"
لن أنكر أن أبى أخطأ حين فعل ذلك ، لكنه رجل كبير فى الستين من عمره ، وهو
أيضا ً مريض بالروماتيزم ، والطقس بارد جدا ً والزنزانه كما تعرف عالية
الرطوبه . "
توقف عن السير وألتفت إلىّ ثم قال بصرامة :
" كان لابد أن يراعى والدكِ كل هذا قبل أن يمد يده ويسرق من خذانتى . "
وأضاف بغضب :
" وكان لابد أن يراعى قبل هذا كله أنه لديه فتاه صغيرة ، لا يجب أن يحملها عبئه ، بدلا ًمن أن يتحمل هو عبئها . "
قلتُ :
" لكنه فعل هذا من أجلى أنا . "
نظر إلىّ بعمق كأنما يحاول أن يخترق رأسى بنظراته وينفذ منها إلى أعماقى ، ثم قال :
" من أجلكِ أنت ؟ كيف هذا ؟ "
تنهدتُ ببطئ وقلتُ :
" لأننى سأتزوج ، وكنتُ فى حاجة لبعض الأشياء من أجل الزواج . "
رفع الرجل حاجبيه فى دهشة وقال مُستهجنا ً :
" أنكِ لازلتِ صغيره جدا ً على الزواج . "
قلتُ مُحنقه :
" أخبرتك مُسبقا ً أننى لستُ صغيره . "
قال الرجل بإصرار :
"
بل إنكِ صغيره جداً ، ولا تعرفين مصلحتكِ ، وكان لابد أن يرفض والدك
زواجكِ وأنتِ فى هذا العمر... أو على الأقل حتى تنهين جامعتكِ . "
قلتُ :
" لكنى لستُ فى الجامعة... لقد أكتفيتُ بدراستى الثانوية . "
عقد الرجل حاجبيه فى شدّه وقال :
" كان لابد أن يرغمكِ والدك على دخول الجامعة . "
أستفزتنى
جُملته كثيرا ً... إنه يتصور أن العالم بأكمله يحيا فى مثل هذا الترف الذى
يحيا فيه . . أو رُبما يظن أن المرتب الضخم الذى يتقاضاه والده من عمله
لديه يكفى لأن يعيل أسرتها ، ويتبقى منه ما يكفى لمصاريف الجامعة أيضا ً !
قلتُ مُنفعله :
" ومن أين له أن يأتى له بمصاريف الجامعة ؟ يبدو أنك لا تدرى كم المُرتب الذى يتقاضاه والدى من عمله لديك ؟ "
نظر الرجل بعينان تقدحان شررا ً، وبدا كأنه يحاول السيطرة على أعصابه وهو يقول بصوت هادئ نسبيا ً:
" ليس لدى وقتا ً لأناقش أموركِ الماليه يا أنسه . "
قلتُ بعصبيه :
" وأنا أيضا ً لم أتِ إلى هنا لكى تعطينى رأيك فى أمور حياتى... لقد أتيتُ لغرض معين ، ولك الحق فى أن ترفضه أو تقبله . "
قال الرجل وقد فذ صبره تماما ً :
" وها أنا أخبركِ للمره الثانيه برفضى لطلبكِ... وأعتذر لكِ بشدّه لأننى ليس لدى وقتا ً لأضيعه فى مثل هذه التفهات . "
وولانى ظهره هاما ً مغادرة الحجرة...
لم أستطع السيطره على غضبى ، فقلتُ له بغضب :
"
أنا التى أعتذر لكِ بشدّه على مجيئى إلى هنا ومقابلتكِ... لكنى كنتُ أظنك
تملك قلبا ً بين ضلوعك ، لا حجرا ً كالذى تبين لى أنه يحتل موضع القلب لديك
. "
توقف الرجل فى مكانه ، وألتفت لينظر إلىّ قائلا ً بصرامه :
" أخرجى من هنا . "
صدمنى ما قاله ، إلا أننى أفقتُ من صدمتى بسرعه وغادرتُ قصره بسرعة...
وكم شعرتُ وقتها بكره شديد لهذا الرجل المُتكبر الأجوف القلب !
لم أكن أتصور أبدا ً أن هناك فى هذه الدنيا من هم مُتعجرفين وأنانيين بهذا الشكل !
تباً لكل من ظن نفسه قد أمتلك العالم بأمواله...
سحقاً لكل من ظن الناس عبيداً لديه...
توجهتُ
نحو قسم الشرطه لزيارة أبى ، وأخيرا ً وبعد عدة محاولات سمحوا لى بمقابلة
أبى... وحين رأيته هالنى ما رأيته على وجهه من شحوب ، وشعرتُ كأن عمره قد
أزداد عشرون سنه كامله فى هذان اليومين !
" كيف حالك يا أبى ؟ "
ابتسم أبى ابتسامه مريره ، ثم قال :
" الحمد لله على كل شئ . "
وصمت لبرهه ثم أستطرد :
" كيف حال أمكِ وأشقاءكِ ؟ "
قلتُ :
" جميعنا بخير . . لا ينقصنا سواك . "
أبى أطلق تنهيدة حزينة وطأطأ برأسه أرضا ً بقلة حيلة ، ثم قال :
" أعرف أننى خذلتكم جميعا ً... لكنى لم أملك حلا ًسوى هذا لأتمام زواجكِ . "
قلتُ أعاتبه :
" وهل كنت تظن أننى كنتُ سأقبل الزواج بينما أنت فى هذه الظروف ؟ "
أبى قال :
" هل تم تأجيل الزواج ؟ "
قلتُ :
" طبعا ً... لكننا سنتمه حينما تخرج بإذن الله . "
أبى ظل صامتا ً لفترة ثم قال بأسى :
" يخيل لى أننى لن أخرج من هنا ثانيه يا أروى . "
ربتُ على كتفه وقلتُ له :
" ستخرج من هنا بإذن الله يا أبى... "
أبى أطرق هنيهه ثم قال بقلة حيلة :
" ومن أين لى أن أتى بذلك المبلغ ؟ لقد أنفقتُ كل المبلغ الذى أخذته من الخذانة . "
قلتُ :
"
لا تقلق بهذا الشأن يا أبى... لقد أستطعتُ الحصول على خمسة آلاف... وبإذن
الله سأتمكن من الحصول على الأربعة آلاف المُتبقية قريبا ً . "
أبى عقد حاجبيه بشدّة قائلا ً :
" ومن أين لكِ بهذا المبلغ يا أروى ؟ "
قلتُ :
" لقد تدبرت الأمر يا أبى . "
أبى نظر إلىّ لفتره ثم قال :
" هل بعتِ شيئا ً ؟ "
قلتُ :
" فداك كل شئ يا أبى.. المهم أن تعود لنا سالما ً . "
أطرق أبى برأسه فى حزن لفترة من الزمن ، قبل أن يعود لينظر إلىّ ويقول :
" أسمعى يا أروى... سأطلب منك طلبا ً إذا قمتِ به رُبما يفرجون عنى . "
أنتبهت حواسى حينئذ وقلتُ متشبثه بالأمل :
" كيف يا أبى ؟ أخبرنى ."
أبى صمت لبرهة ثم قال :
" صاحب الشركه رجلا ً معروف بطيبة قلبه وكرمه... إذا ذهبتِ إليه رُبما يسمح بإخراجى من السجن . "
نظرتُ إلى أبى بخيبة أمل كبيره وقلتُ :
" لقد ذهبت إليه بالفعل يا أبى . "
أبى نظر إلىّ بلهفة وسألنى :
" هل رفض ؟ "
زفرتُ بضيق وأنا أتذكر لقائى معه ، ثم أومأت برأسى إيجاباً وأنا أقول :
" إنه رجل متكبر ومغرور... أبى أن يأخذ منى المبلغ بل وطردنى من منزله . "
أبى نظر إلىّ بدهشة ثم قال :
" كيف هذا ؟ إنه يعامل كل العاملين لديه معامله حسنه... "
قلتُ :
" هذا ما حدث يا أبى . . "
وأضفتُ بسرعه حين رأيت ذلك الحزن الذى أطل واضحا ً من عينىّ أبى :
" لكن لا تقلق . . أنا سأتدبر الأمر بإذن الله و . . . "
بترتُ عبارتى لدى دخول ذلك الشرطى الذى أخبرنا بأنتهاء الزيارة ، ثم وضع الأغلال بيد أبى وقاده إلى الزنزانة !
حاولتُ التماسك وأنا أغادر قسم الشرطة لكن الدموع خنقتنى ولم أستطع الأحتمال ، فأطلقتُ العنان لها وتركتها تغمر وجهى . .
لماذا يا ربى يحدث لى كل هذا ؟
لماذا لا تكتب لى الراحة أبداً ؟ لماذا ؟
تتبع